من الأرض إلى الفن: روائع المصنوعات الفخارية
CRAFTSMANSHIP & TECHNIQUES


الفخّار، أحد أقدم الحرف الإنسانية وأكثرها استمرارية، حافظ على دوره الحيوي في الثقافة البشرية لآلاف السنين. إذ يقوم الحرفيون بمهارة بتحويل الطين العادي إلى مصنوعات عملية وجمالية ومعبرة ثقافياً. ويُجسّد فن صناعة الفخار ذكاء الإنسان وابتكاره وقدرته على تحويل المواد الأولية (الأرض) إلى تعابير فنية. وعلى مرّ التاريخ، تطوّر الفخار ليكون فناً وظيفياً وزخرفياً في آن واحد، غير أنّ جوهره ظل ثابتاً: فهو يمثّل التداخل الدقيق بين اليد والأرض والنار.
فن متجذّر في التربة
تبدأ صناعة الفخار بالمادة الأساسية: الطين. فمنذ آلاف السنين، استخرج الفخّارون الطين من ضفاف الأنهار، ومنحدرات الجبال، والطبقات الجوفية، حيث تُتيح لُدونته سهولة التشكيل. وهذه المادة الخام، التي تتنوع أشكالها وألوانها تبعاً لبيئتها، تحمل روح موطنها الأصلي. فلكل نوع من الطين خصائصه الخاصة من حيث الملمس واللون والقوام، مما يمنح كل قطعة فخارية هوية فريدة وبصمة مميزة لمصدرها.
قبل الشروع في التشكيل، لا بد أن يُصفّى الطين ويُحضَّر لأساليب التدوير على الدولاب أو التشكيل اليدوي. وهذه العملية الدقيقة، التي لم تتغير عبر الأجيال، تمهّد الانتقال من التراب إلى الفن. وبينما يُطوّع الفخّار الطين، ينخرط في حوار حميمي مع مادته ـ تفاعل بين الخالق والعالم الطبيعي. فعندما يُشكّل الطين على الدولاب، يتجاوب معه بالصعود والهبوط، كاشفاً عن إمكاناته الكامنة.
هذه الصلة بالأرض هي ما يُميز الفخار عن غيره من الفنون. ففي حين قد تبدو بعض الفنون منفصلة عن عناصرها الأساسية، يظل الفخار فناً ينشأ من التفاعل المباشر بين الأرض وروح الإبداع. فأيدي الفخّارين، التي صقلتها التقاليد على مرّ القرون، تُحوّل التراب إلى جرار وأطباق ومزهريات وتحف زينة تجمع بين المنفعة والجمال.
التقاء التقاليد والابتكار
لقد تجاوز الفخار عبر العصور حدود الاستعمال اليومي، ليصبح وسيلة للتعبير الثقافي، عاكِساً معتقدات الشعوب وعاداتها وهوياتها. فمن الزخارف المتقنة للفخار المغربي إلى الخطوط البسيطة والأنيقة لفخار الراكّو الياباني، طوّرت كل ثقافة أسلوبها ومنهجيتها الخاصة في صناعة الفخار. وهذه الأساليب، التي غالباً ما توارثتها الأجيال، تُجسّد الإرث التاريخي وسرديات صانعيها.
فالفخار المغربي معروف بألوانه الزاهية ونقوشه الهندسية المعقدة، التي تحمل غالباً دلالات رمزية عميقة، تأثرت بالتراث الأمازيغي العريق والفن الإسلامي لاحقاً، لتروي قصص الهوية الإقليمية والتقاليد الفنية. أما فخار الراكّو الياباني، بما يتسم به من قوام عضوي ولمسات عشوائية، فيجسّد تقدير اليابانيين العميق للطبيعة وقيمة الجمال في النقصان. فكل قطعة من هذا الفخار متفرّدة، نتاج التفاعل بين العناصر الطبيعية ورؤية الفنان.
ورغم تقدير هذه الأساليب التقليدية، يواصل الخزّافون المعاصرون توسيع حدود هذه الحرفة. إذ يدمجون بين الموروث والحداثة، مستكشفين أشكالاً مبتكرة، وأساليب تزجيج جديدة، وزخارف جريئة. وهكذا يشهد الفخار نهضة معاصرة، حيث يحوّل الفنانون الأشياء اليومية إلى تحف فنية تذوب فيها الحدود بين النفع والجمال. ومع ذلك، ورغم التطوير والتجديد، تبقى طبيعة الفخار الجوهرية ثابتة: علاقة اليد بالأرض والنار التي استمرّت آلاف السنين.
اللهيب الداخلي
تبدأ التحوّلات الحقيقية للفخار في مرحلة الحرق. فبعد التشكيل، يوضع في الفرن حيث تُحوّل الحرارة العالية الطين الهش إلى خزف متين. وتصل درجات الحرارة في الأفران إلى نحو 2000 درجة فهرنهايت، لتقوّي البنية وتكوّن الألوان والأنماط السطحية الفريدة التي تُميّز كل قطعة.
ويُعتبر الفرن قلب ورشة الفخار، إذ يحدد بدرجة كبيرة النتيجة النهائية. ففي الأفران القديمة التي تعمل بالحطب، يضيف اللهب والدخان عنصر المفاجأة، مطبعين الفخار بأثر لا يمكن تكراره. وبذلك تصبح كل قطعة نتاج تفاعل بين يد الفنان وقوى الطبيعة.
ولا يقتصر الحرق على تقسية الطين، بل يُذيب الطلاء الزجاجي (التزجيج) ليلتحم بسطح القطعة، مانحاً إياها لمعاناً زجاجياً. وغالباً ما يُصنع الطلاء من مواد طبيعية تُنتج ألواناً وملمساً متنوعين. وفي تقنيات مثل فخار الراكّو الياباني، تُعد عملية الحرق جزءاً لا يتجزأ من التعبير الفني، حيث تشارك النار نفسها في تشكيل المظهر النهائي للقطعة.
الفخار في العصر الحديث
في زمن تهيمن فيه المنتجات المصنعة والسلع سريعة الاستهلاك، يظل الفخار شاهداً على أهمية المهارة الحرفية. فصحن أو مزهرية مصنوعة بعناية تُضفي دفئاً وفرادة على الحياة اليومية، وتجسّد القيمة المستمرة لعمل اليد البشرية. وعلى عكس المنتجات الحديثة الزائلة، يحمل الفخار إحساساً بالثبات والارتباط بالتاريخ.
وقد ساهمت هذه العودة إلى الفخار في تعزيز الحاجة إلى منتجات مستدامة ذات معنى. فالكثير من الحرفيين اليوم يلتزمون بالممارسات الصديقة للبيئة، مستخدمين مواد محلية وتقنيات طبيعية. وبهذا يقدّم الفخار بديلاً دائماً في مواجهة ثقافة الاستهلاك السريعة. فصناعته لا تقتصر على الجمال فحسب، بل تنطوي على خلق أشياء يمكن أن تُورّث وتُحفظ لمدى الحياة.
كما أن دعم الفخار وغيره من الصناعات اليدوية يسهم في الحفاظ على الفنون التقليدية وتأمين أرزاق الحرفيين الصغار. فالكثير منهم يعملون في تعاونيات أو ورش صغيرة، معتمدين على دعم مجتمعاتهم المحلية. وشراء منتجاتهم لا يضمن استمرار هذه الحرفة فحسب، بل يُبقي على صلة وثيقة مع التراث الثقافي.
من التراب إلى الفن
الفخار، بما يحمله من تاريخ عريق، يُجسّد تحوّل مادة أولية بسيطة مثل الطين إلى فن رفيع. وسحره لا يكمن فقط في القطعة النهائية، بل في عملية الإبداع ذاتها، التي تربط الحرفي بالأرض وبإرث ممتد عبر أجيال. وسواء كان مستمداً من التقاليد أو مطوّعاً بأفكار عصرية، فإن جوهر الفخار يظل ثابتاً: تحويل البسيط إلى ما هو استثنائي.
وفي عالم يُنظر إليه أحياناً على أنه بعيد عن الطبيعة والتقاليد، يثبت الفخار أن الفن يمكن أن يبقى متصلاً بالحياة اليومية. فأعظم أشكال التعبير الفني قد تنبع أحياناً من الأرض التي نخطو عليها. والفخار، بمزجه بين النفع والجمال، بين الموروث والحداثة، يواصل إلهام الناس وإثارة إعجابهم، مبرزاً السحر الذي يتولد من اتحاد الخلق مع الطبيعة.
إنها حرفة قديمة، متجذّرة في الأرض، مشتعلة بروح الابتكار، تُجسّد روح الإنسان وقدرته على تحويل المواد الأولية إلى جمال خالد. وبعد آلاف السنين، ما زال الفخار يحمل القدرة على رفع المألوف إلى مصافّ الاستثنائي.

